فن

زياد رحباني لي وللجميع: لست أدرى!

زياد رحباني، لم يكن مجرد موسيقي، بل كان الصوت الذي جعل الذكريات تعيش أطول منا، والفشل يبدو أقل وجعًا، والحب أكثر خلودًا.

future الموسيقار زياد الرحباني ووالدته المطربة فيروز

«شو هالأيام اللي وصلنالها»

—زياد رحباني

أسرتي بسيطة، من مدينة صغيرة على النيل في شمال غرب مصر، حينما كنت في المدرسة الثانوية، تقريبًا في عمر 16 عامًا، أقامت الأسرة حفل زفاف بسيط لابنة عمي، كان الفرح اعتياديًا، أضواء زينة على واجهة المنزل، مشروبات غازية، ومأكولات مطبوخة منزليًا، حضر أحد أصدقائي بالصدفة، كان كل شيء متوقعًا، حتى وصلنا لفقرة فيروز، نعم، في كل حفل لأسرتي كانت هناك فقرة مخصصة لفيروز، حينما بدأت أغنية «ع هدير البوسطة»، لم يفهم صديقي لِمَ كل هذا الاحتفاء بأغنية لبنانية مسرحية.

مرت سنين طويلة، تركت مصر، أزورها مرة كل عام، وأحيانًا كل عامين، ابنة عمي تركت هي وزوجها مصر وعاشت في الخليج، ثم عادت لتعيش في إحدى المدن الجديدة، لم تبقَ الأمور في عائلتي كما كانت، لكني لا أنسى هذه اللحظة، ولا أنسى ابتسامة صديقي وضحكته المكتومة وهو ينظر لأسرة مصرية بسيطة تحولت فجأة لفرقة مسرحية لبنانية.

كتب زياد رحباني «ع هدير البوسطة» ولحنها وهو شاب صغير، يحكي عقب ذلك بسنين طويلة أنه كتبها من قصة حقيقية في أتوبيس المدرسة، وعليا كانت في الأصل ليلى فتاة مصرية كان مغرمًا بها، لكنه غرام من بعيد، لم يخبرها ولم يضع اسمها في الأغنية حتى لا تعرف العائلة.

الذكريات هي مشاهد عشوائية، غريب تمامًا كيف يتم تخزين الكثير منها، واستعادة القليل منها، أحيانًا أقلها أهمية، وأحيانًا يعيد عقلنا تركيب ذكريات لم تحدث أصلًا.

مات زياد رحباني منذ يومين أو ثلاثة، بالتحديد في 26 يوليو 2025، فوجئت بأن فيسبوك ممتلئ بكتابات لأشخاص يعلنون عن علاقتهم الخاصة جدًا به، بألحانه، أشعاره، آرائه، ونكاته، أنا أيضًا أظن ذلك، هل كل هؤلاء يشبهوني! بالتأكيد لا، العالم ليس بهذه الروعة، العالم ربما الآن في أنجح حالات عدم الروعة على الإطلاق، هذا سطر ربما كان سيكتبه زياد الصغير، أو ربما أحاول فقط تقليده، هل يظن الجميع أيضًا أنهم يشبهون زياد؟!

دعنا نستكشف مزيدًا من الذكريات.

قديش كان في ناس

«فقلت: حدثونا عن غير الموت
قالوا: نحكي عن الحرب
قلت: عن غير الحرب
قالوا: نحكي عن دموع المشردين
قلت: عن غير دموعهم
قالوا: عن المنتظرين
قلت: عن غير المنتظرين
قالوا: لا نعرف غير هذا فعمّ نحكي
قلت: اسهروا كما تسهر الحيطان
لا تتكلموا عن شيء
وانظروا بعضكم إلى بعض
علّ الوجوه تتحادث»

— زياد رحباني

أحد الذكريات التي لا تفارقني هي جلوسي على مسند بين كرسيي سيارة والدي التويوتا البيضاء الأماميين، كنت صغيرًا بشكل بحيث يكفيني هذا المسند، طفل في حجم ذراع كان سيجلس في هذا المكان إذن، كنا نذهب بهذه السيارة إلى العريش، لنا شقة قريبة من البحر، في آخر حي من العريش قبل الوصول لرفح، هناك وفي الأيام المعابر المفتوحة كنا نشتري زيت الزيتون الفلسطيني من أهل رفح، هل كانوا مصريين أو فلسطينيين؟ لا أعلم، هل كنت صغيرًا بحق لأجلس في هذا المكان أم أنني أتخيل نفسي مكان أخي الأصغر؟ لا أعلم.

ما أتذكره بشكل واضح تمامًا هو صوت فيروز، تغني بشكل متواصل من تسجيل السيارة القديم، كان لدى أبي علب ومجلدات تحوي كل ما غنته فيروز تقريبًا، في شرائط كاسيت. الذكرى أستعيدها دائمًا مع صوت قطرات مطر تتساقط على زجاج السيارة، فيروز تغني «قديش كان في ناس، ع المفرق تنطر ناس»، تكمل فيروز الكلمات بشكل حزين للغاية «ما حدا نطرني»، «ضجرت منى الحيطان»، تبدو فيروز وكأنها تتحدث هنا عن الخذلان، الحصار، والضجر. هل هذا حقيقي أم أنني أعيد تركيب ذكريات لم تحدث؟! كيف كانت «تشتي الدنيا» والعريش كانت مصيفنا؟!

عمومًا، الأكيد أن زياد لحَّن «قديش كان في ناس»، وكتب جزءًا منها أو على الأقل مطلعها وهو في سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة. يقال إن والده وعمه اشترياها منه بـ250 ليرة. الأغرب أن زياد قد كتب شعر بداية هذه الفقرة في ديوان «صديقي الله» وهو ابن 12 عامًا، هل تصدق هذا؟

لم نعد نذهب إلى العريش، وعلى بعد بضع كيلومترات من شقتنا يموت أهلنا في رفح وغزة، كل يوم، «ما حدا نطرهم»، والجميع يريد أن يتحدث عن غير الحرب، وغير الموت، وغير المشردين.

شي فاشل

«شي فاشل، فعلًا
مش نحنا يعني، هي موسيقى من مسرحية شي فاشل
من سنة الـ81 لهلئ شي فاشل.. كل شي فاشل
يمكن انجح انواع الفشل بالعالم»

هكذا يقدم زياد مسرحيته «شي فاشل»، مسرحية تسخر من مسرحيات الضيعة اللبنانية التي أسس لها الرحابنة، لبنان التي يحب فيها الجميع الجميع. في مسرحية زياد تفشل المسرحية لأن أهل الضيعة يتآمرون على بعضهم البعض، يهاجم زياد أمراء الحرب الأهلية، يهاجم عقب ذلك وفي مرات عديدة لاحقة حزب الكتائب الذي كان من المفترض أن ينتمي له جغرافيًا ودينيًا، يثور زياد على كل الثوابت، يقدم نفسه كمتمرد يساري، صعلوك ترك عالم الأغنياء وخطب ود الفقراء، يا للجمال.

ليس غريبًا إذن أن زياد أصبح صديقي الصدوق خلال فترة ثورة يناير وما بعدها، وطبيعي تمامًا أنه أصبح -على الأقل بصوته- عضوًا دائمًا في شقة الأصدقاء الطيبين التي جمعتني مع أصدقاء طيبين حينما انتهت الثورة، انهزمت الثورة.

حينما أسمع «شي فاشل» تقفز ذكرى حلوة ومرة، حينما ضاقت علينا مصر، فانعزلنا في شقة الأصدقاء الطيبين، نسمع زياد، يلعب صديقنا رجائي بصوته أغانيه التي كانت يسارية أكثر مما تتحمله فيروز، ما غناه جوزيف صقر وسامي حواط وغيرهم، مسرح وراديو وموسيقى سياسية متمردة، لكنها خفيفة الظل أيضًا.

يكتب زياد:

أنا مش كافر بس الجوع كافر
أنا مش كافر بس المرض كافر
أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر
أنا مش كافر
لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي
كل الإشيا الكافرين

حينما مات زياد، نفضت الغبار عن جروب شات قديم لشقة الأصدقاء الطيبين، لم تعد هناك شقة، والأصدقاء يعيشون في دول تفصلها بحار ومحيطات، كتبت لهم زياد تعيشوا أنتم، رد مجاهد بأنه يشعر أنه قد فقد أحد أقارب الدرجة الأولى. ومجاهد هو أحد أصدق البشر الذين عرفتهم في حياتي، يقول مجاهد الحقيقة دون فلاتر ودون مبالغات.

لست أدري

«وأقول: ما دمت أنا لا أحب أن أرحل وأنت لا تحبين،
فلماذا أرحل؟
وتقول: لست أدري!»

— زياد رحباني، صديقي الله

كان زياد عبقريًا، فذًا وموهوبًا بحق، كل هؤلاء، كل الذين يكتبون عنه الآن يريدون أن يشعروا أنهم أيضًا موهوبون، كان زياد محبًا لسب الأغنياء والطغاة والخونة، ولهذا يحبه كل هؤلاء، لأن غالبيتنا، غالبية البشر، فقراء ومستضعفون. لكن هذا ليس كل شيء، زياد يتحدث عنا كبشر، بشر تواقين للحب.

«كيفك، عم يقولو صار عندك ولاد
أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد»

حينما أسمع «كيفك أنت» تقفز ذكرى واضحة تمامًا لقصة حب غير مكتملة، قصة تشبه كل قصص الحب غير المكتملة التي مر بها كل من سيقرأ هذا المقال.

يحكي زياد عن «كيفك أنت»، كيف أخذ كلماتها من كلمات أمه «فيروز» له. رحل زياد خارج البلاد بحثًا عن حبيبته، أخبرته حينها «لو تحبني بصدق سافر وتزوجني في الخارج»، لم تنجح الحكاية، عاد زياد، تلومه أمه، لكن الأغنية اشتهرت بشكل مختلف، يسمعها ملايين كحديث بين رجل وحبيبته السابقة، قصة حب غير مكتملة، هذا هو الحب المفضل لنا كبشر، لأن عدم اكتماله هو سر خلوده، هل كان سيصبح بهذه المكانة لو اكتمل؟ على الأرجح لا. تكتمل قصص أخرى وتصبح هي الحقيقة، بكل ما فيها من سعادة وحزن حقيقي، لكن الخيال دائمًا في مكانة الفن، والفن يفضل النهايات المفتوحة.

صنع زياد موسيقى عربية مختلفة، مزج الشرقي بالغربي والجاز بالكلاسيك، خلق الحقبة الأهم والأطول والأكثر تأثيرًا في مسيرة فيروز في زمن ما بعد الأخوين رحباني، هو واحد من الموسيقيين العرب الذين شكلوا تاريخ الموسيقى في هذا الوطن العربي المأزوم، فرد في مجموعة صغيرة من الرواد الذين يمكن عدُّهم على أصابع اليد الواحدة. وفي هذه المجموعة ربما هو الوحيد بهذا القدر من التمرد السياسي.

هل نشبه زياد بحق، أم أنه أثر في وفيكم وفي ملايين العرب، وهكذا جعلنا نشبهه؟ أعتقد أنه لم يكن سيدري إجابة هذا السؤال، وأنا أيضًا لا أدري.

# فن # زياد رحباني # رحيل زياد رحباني

ثورة يوليو والسينما السياسية
هندسة الخوف: مأساة الإنسان الخاضع
فيلم Un Simple Accident: الانتقام كفعل تطهري

فن